يحكي لي أحد أهلنا الطيبين أنهم في ليلة من الليالي في أواخر عقد الستينات من القرن الماضي يعني قبل أكثر من نصف قرن من اليوم أنهم جلسوا تحت ضوء القمر في وسط القرية الهادئة القديمة أمام دكان عم اسماعيل عبدالباسط في شكل برلمان مصغر إن جاز التعبير، وقرروا مقاطعة سوق الإثنين نسبة لعدم توفر سيولة في جيوبهم ولخلو قواسيبهم من أي محصول إضافي أكثر من حوجة البيت رغم بساطتها ومحدوديتها. فلن يذهبوا لسوق الإثنين رغم أنه كان لكل واحد محصوله قد تم حصاده وهو مكوم في التقيات ومافي هواء عشان يضري الفول لذا قالوا نقاطع السوق باكر وكل واحد يمشي يحرس تقاتو عشان ينادي الضرايات ويضري محصوله، رغم أن الضرايات غير محتاجات لتنبيه ونداء، بس شوية طراوة تجدهن سبقن صاحب الحقل إلي التقا تسبقهن الدعوات الصالحات، ويكثرن من ترديد ماشاء الله تبارك الله وبطهرهن وصدق النية ودعواتهن يبارك المولي الكريم في المحصول ويكفي الزول للحول.
وإلي أن تفرج الاسبوع الجاي نتسوق بإذن الله يقول عمنا، وهنا قال عمنا عبد القادر حسين أو قدورة ليه مانمشي لازم نمشي أنا عندي عشرة جنيه بتقضينا كلنا نمشي علي سوقنا وأنا سوف أدينكم كلكم وعلي مهلتكم لامن يمرق المحصول. وفعلاً من الصباح الباكر مرقوا علي صهوات الحمر الريفية التي تشتهر بها المنطقة وتكون مسروجة وأحيانا مع الفرو الأبيض والمخلاية المزركشة معلقة خلف السرج (شايلين الوادي) كما يقول أهلنا عندما يذهبون إلي السوق في الدبة التي تقع عند مصب وادي الملك والذي ينحدر من أقاصي غرب السودان، لذلك تجد أن الدبة في أحيان كثيرة يسمونها الوادي ويبدو ذلك جلياً في أسماء بعض المحلات مثل لوكاندة الوادي أو ترزي السعادة بالوادي. وعادة يكون السؤال موجهاً للراكب أو الماشي راجلاً: شقيش؟ وياتي الرد: شايل أو شايلي السوق أو الوادي أو أي مكان أخر علي وزن مندلي أو مبحر (متجه شمالاً) أو مقبل (متجه جنوباً) أو الصعيد أحياناً.
وهناك في السوق يذهبون بالحمر إلى مايعرف بالكارة، والكارة لمن لايعرفونها عبارة عن حوش كبير يدار بواسطة المجلس المحلي كموقف للحمير التي كانت أهم وسيلة للمواصلات (Parking) في ذلك الزمان. وكانوا يجتمعون كما تعودوا أمام دكان حسين إبراهيم بجوار قهوة ومطعم إبراهيم القهوجي وفي مقابل مطعم يمني الدرملي الشهير. عمنا عبد القادر حسين قال في سره أول شئ أنا أفطر أخواني ديل من العشرة جنيهات ديل وبعد الفطور أشتري بي الباقي لي كل واحد كيلو لحمة وخضار كان بطاطس كان بامبي ولا قرع وسلطة وغيرو، المهم أملأ لي كل واحد مخلايتو ونرجع وباقي المقاضي سكر وشاي وزيت وصابون متوفره في الحلة في دكان اسماعيل أو عبد الحفيظ أو ود الكرد يدينوهم سنة للحول، وطوالي طلب كم طلب فول وكباب لي كل المجموعة وأثناء ماهم ضاربين حلقة حول الأكل وقف رجل بعيداً وقال بصوت عال يا عبد القادر: داير لي معاك كلمتين … يازول إتفضل إتفضل
قال: لا بس داير عبد القادر ده براه.
قام عبد القادر نفض يديه من الأكل وقال ليهو: جيداً جيت، حبابك، شن خبرك يا زول مالك مابي اللكل؟
فقال له والله يا قدورة يا أخوي أنا مرتي أسي في المركز الصحي ومتعسرة المساعد الطبى قال الجنين متعارض في بطنا وقال لازم تتحول الآن لي المستشفي في مروي ويعلم الله أنا ماعندي ولامليم دحين جيت قاصدك وداير لي عشرة جنيه.! عشرة جنيه ؟؟ كل ما تملك هذه الشلة وجايين كلهم عليها وعلي البركة.
طوالي عمنا عبد القادر مرق العشرة جنيه وناولا ليهو، وزول شافوا مافي وقال في سره جماعتي ديل مابكلمن إلا بعد مايشبعوا عشان مايتصدموا وبعدين الدَبَارة عند الله. ورجع واصل في الفطور عادي زي الما حصل أي شئ يعكر صفو اللحظة، وهو يظهر الطمأنينة. بعد شويه بس وقف رجل آخر بعيد ونادى عمنا عبد القادر: يا عبد القادر، يا ود حسين داير لي معاك كلمتين.
هنا عمنا عبد القادر قال في سره لا حول ولا قوة إلا بالله أسي الزول دا أكان قال داير ليهو مليم واحدي وأنا قلت ليهو ماعندي ما بصدقني. أسي أنا شن أسو؟ الدخول في الشبكات هين ….!!
ثم ذهب إليه فقال له يا عبد القادر يا أخوي أعفي لي وأعفي مني، أنا سويت لي خدمي بلا شورتك.
شن سويت يا التِلِب (كناية عن الرجل الشهم)؟؟ فرد عليه لا لا مو الفي بالك، ومعها ابتسامة من النوع الذي يفهمانه هما فقط. دحين يا خوي عجلتنا الكنا متشاركين فيها أنا وإنت ولدت وأنا الليلة إحتجت لي قروش لي عرس ولدي وجبتها السوق وبعتها بي 60 جنيه بدون ما أشاورك وهاك دي 30 جنيه حقاتك حلال بَلَال، وأعفى مني عشان بعتها قبل ما أوريك ..
فوقعت ال 30 جنيه برداً وسلاماً علي عمنا عبد القادر والذي كان ناسي العِجلة ومارقي من بالو..!! ختَ القريشات في جيبو براحة بدون ما يشوفوه ورجع كمل فطورو بي مزاااج، وزول عارف حاجة مافي …
وبعد ما فطروا وشربوا الشاي المظبط واتقهوجوا …
طوالي جمع منهم المخالي وساق معاهو جنيات (وليدات) ومشي علي الجزارات إشتري لي كل واحد 2 كيلو متنوع بي عضم وبدون عضم، وكل واحد ملأ ليهو مخلايتو لامن دفقت وجابن ليهم وهم
مخلوعين ومتعجبين !!! كيفن العشرة جنيه بتسوي السوا دي كلها فسألوه؟؟ شنو آ زول؟؟ الشي ده كلو بي الجنيهات العشرة واللا في شيتاً مانا خابرنوا؟؟؟
فكان رد عبد القادر أن دعاهم مرة أخري ليحكي لهم القصة بتفاصيلها فقال لهم نتلاقى بعد العِشاء ، وفعلاً تلاقوا كعادة كل يوم وبدأ يقص عليهم حكاية الرجلين الاول والتاني العجيبة، وكمل القصة قائلاً لهم زمان قال الشاعر:
دخول الراس في الشبكات ساهل *** ولكن مروق الراس من الشبكات قاسي
ولكن نحن نقولو:
دخول الزولِ في شراكاتِ البقرات ماهل*** وفض شركة البقرات نافع وماهـو قاسي
وبعد ضحكات صادقة ومجلجلة تحت تلك السماء الصافية صفاء تلك النفوس الطيبة أردف قائلاً لهم بنبرة جادة والله حرمان علي ما ترجع لي ولا مليم واحدي من أي واحد فيكم … تم كل شئ بسبب قضاء حوائج المحتاجين وحسن المقصد واخلاص النية وصفائها فرزقهم المولى غايه السعادة والإنشراح والخير وسماحة النفس.
أجمل تحية لمن ظلوا يزرعون الخير في بلادنا ويبدلون الألم بالأمل ويعيدون الابتسامة وأحلى سلام لأهلي في كرمكول الذين إذا ناديناهم بالروح ردوا علينا بالقلوب وهمسوا لنا بالحب الذاخر بنبلهم. والف تعظيم سلام لأرواح حملت الحياة بهم ولهم في قلوبنا مكان وكل المحبه والاحترام، يسر الله لكم الخير فأنتم أهله وبكم نزداد عزاً وفخراً…