مقدمة
في عددها الخاص بمناسبة اليوبيل الفضي لإجتماعات قادة الشرطة العرب في أكتوبر 1997م تم نشر هذه القصة الواقعية ـ مأساة الصحراء ـ بل مأساة الإنسانية بمجلة الشرطة السودانية التي تصدرها وقتها الإدارة العامة للتوجيه المعنوي والتي كان يرأس مجلس إدارتها سيادة اللواء شرطة: هجو محمد أحمد الكنزي نائب مدير عام قوات الشرطة، بيد أن بداية المأساة كانت قد إرتسمت فصولها الدامية في مطلع العام 1983م من ثمانينات القرن الماضي .. ذاك القرن الذي رحلَّ عن فضاءات الولاية الشمالية بعد أن ترك آهات متفرقة في وجدان بنيها ومسافريها الذين كانوا يعبرون الصحاري في غدوهم وترحالهم.
وبمرور ما يزيد على العقد من الزمان على بدايات النشر وعقدين ونصف العقد على وقوع المأساة جرت مياهٌ كثيرة على جسور عدة في إتجاهات مختلفة .. برز إلى الحياة جيل بل أجيال كُثر .. تطورت وسائل المدنية .. تبدلت مفاهيم ورؤى وقراءات .. فكانت دراسات الجدوى .. وكان الإقتصاد والعلم .. وكان بداية الميلاد الحقيقي في ذاك الإتجاه الذي أدمن الصبر على مر حقب التاريخ بشقيه الإنساني والسياسي على الرغم من أن حاكمية الوطن في بعض تلك الحقب كانت تنحدر من ذاك المكان .. إلا أن سمة الحياء الزائد الذي كانت تتمتع به تلك القيادات الحاكمة كان يحول بينها وبين إلتفاتة مرجوة كان من الممكن أن تحفظ أرواح من مضوا على هذه الطرقات المُقفِّرة .. بيد أننا في هذه الحقبة المعاصرة من عمر الإنسانية نطالع الجهود الرامية لتحسين الصورة التي أرهقتها السنين العجاف وهي تنخر في إطارها البالي الذي ما عاد يقوى على الصمود أمام رنات الصبر والجلد والتحديق في وجه اللانهاية وفي تجاعيد المستحيل.
وبعد كل هذه الأزمان المتعاقبة ظل الكثير من الأحباب والمهتمين بشئون الإنسانية يلاحق قلمي الصغير بضرورة إعادة نشر المقال بحسب متغيرات كثيرة طرأت على الساحة الإنسانية والإقتصادية أوجبتها ضرورات التنمية القومية الحديثة وباركها الخبراء والحكام ناظرين في أن إعادة النشر هذا ما يُعيد إلى أذهان القادمين الجدد إلى الحياة تضاريس لوحات قديمة إكتست عتامة سوداوية وملامح تضحيات ومجاهدات وأناة، ولتربطهم بذكرى الماضي الآسف وبريق المستقبل الحاضر ليتمكنوا عبر تلك الإطلالات من الإطلاع على مشاهد متباينة وحقب مندثرة .. فيثرى خيالهم ويطمئن بالهم .. كل ذلك ومياه كثيرة كما أسلفت قد جرت تحت الجسر ودماءٌ زكية قد سالت طاهرةً وروت ذلك الجسر العلامة .. جسر ملحمة الفداء عند مرقد النهر ناحية العاصمة الوطنية التليدة .. عندما سد الطريق فرسان تكسرت عندهم النصال وإرتدت على أجسادهم النورية ضربات النبال .. فحالوا بأجسادهم الندية دون بلوغ الغزاة لأمارة السلطان العلوية الصفوية .. فطوبي للراحلين في ذاك المشهد البديع .. إذ لعلى الآن أنظر إليهم في عليائهم الفخيمة وفي هالاتهم البهية وهم يلوحون لنا برايات الفوز وترانيم النصر وفي جواهم حسرة علينا لأن لم نلحق بهم في خيلائهم الأبدية.
إزاء هذه المناشدات المخلصة نعيد ترتيب أوراق الذاكرة ليطل عليكم المقال مرة أخرى، وقد آثرت أن تسبقه هذه المقدمة الإيضاحية لعل في ذلك ما يفضي إلى فائدة المطلع ..
نواصل ،،،