لعل المراقب في ذاك الزمان يلحظ الإرتفاع اللافت لضحايا الطرقات البرية بالولاية الشمالية في تنقلهم إلى خارجها لولايات أخرى أو حتى بداخلها في حال من مدينة لأخرى وكثير من هذه الأحداث كان يمر في سكون وخفوت ودون تسليط إضاءة إعلامية تبرز عمق جراحه وعميق أحزانه في زمن كانت لا تتمدد فيه الآلة الإعلامية لتغطي كل أصقاع الوطن قبل أن تقتحمنا ثورة الإعلام وتحيل العالم إلى كرة صغيرة يتقاذفها الجميع في لا عناء.
إلا أن أشهر أحداث وفواجع هذه الطرق بالولاية الشمالية ما شهدته مدينة الدبة ـ تلك المدينة الوادعة التي تزين مسار النيل عند إنحناءته ـ في مطلع الثمانينات من القرن الماضي من مأساة محزنة أحدثت صدىً داوياً وإهتماماً لافتاً لأسباب ترتبط بشخوص أطرافها ولكون الرحلة كانت داخلية قصيرة الخطوة لا طويلتها، علاوةً على ما صاحب وقوعها من تأويلات .. وإستنتاجات .. وترويجات وإفتراءات جانبها الصواب وتبرأ منها الحق.
تبدت تفاصيل الحدث الأسطوري في صباحات ذاك اليوم السابق لرمضان المعظم من العام 1983م ولم أكن وقتها أعمل في منظومة ضباط شرطة المديرية الشمالية إذ كنت أترأس نقطة شرطة قيسان الحدودية بمديرية النيل الأزرق في مدخل حياتي العملية عندما بدأت بعض الصحف السيارة التي كانت تصلنا لماماً في تلك الأصقاع النائية من الوطن تتناقل خبراً مفاده إختفاء ضابط إداري منطقة عبري ـ تلك المنطقة الواقعة في الجزء الشمالي من المديرية الشمالية ـ وسائقه عندما كانا في رحلة داخلية من مدينة عبري إلى مدينة الدبة وبالأحرى قرية كرمكول الوطن الصغير للضابط الإداري لمدينة عبري عبدالباسط بخيت عبدالباسط ـ كما وهي مسقط رأس الروائي العالمي الطيب صالح كما تعلمون ـ وقد تجرأت بعض هذه الصحف وألقت باللائمة على حاكم الإقليم الشمالي بالدامر وقتها ونسبت إليه القصور الشديد في دفع عملية البحث عن ضابطه المفقود بدائرة إختصاص حكومته الإقليمية وكان ثمرة هذا النهش المتلاحق إيفاد طائرة مروحية تتبع لسلاح الجو السوداني في وقت كان يحسبه الجميع أنه جاء متأخراً بعض الشئ، حيث قامت المروحية المذكورة بمسح خط الرحلة المفترض جواً كما ومسحت سماوات الصحاري والقفار المترهلة الموازية له بحثاً عن المفقودين ولكن لم تجد المحاولة شيئاً وعادت الطائرة أدراجها دون تحقيق أهدافها .. فيما ظلت الأهداف المرتجاة كأنها أشباح إبتلعتها أضابير القفار.


وبقراءة للأوضاع السائدة بالبلاد في ذلك الوقت نجد أن الحدث قد تزامن مع بدايات تطبيق حكم الشريعة الإسلامية الأمر الذي كان مبعثاً لكثير من الجدل واللغط من بعض عدم المتريثين والإنتهازيين بأن نسبوا للضابط المذكور وسائقه الفرار لدولة مجاورة إحتجاجاً على نهج الدولة تطبيقها حكم الشريعة بعد أن أخذا معهما خزانة المجلس الممتلئة بالأموال دون أن يدركوا أنهم بذلك كانوا يطلقون الفراءات في حق رجل إتصف طوال مسيرته الإنسانية والمهنية بالورع والشفافية والزهد والخلق القويم ..
وعلى أصداء هذه الحكايات المختزنة ..كنت وكلما فقت إلى نفسي وتصالحت معها أُحلق في خيال فصولها مسافراً بالذاكرة عكس عقارب التاريخ متأملاً تلك الصورة القاتمة للمسارات البرية وكيف كانت معاناة الطريق والأسفار والصحاري التي تطوق الأنفس من كل صوب والموت الزؤام وأشباح الفناء المطلة على فضاءات تلك القفار ورائحة الموت التي تزكم أنوف المسافرين وأرتال العابرين .. حتى أن دارت السنين وإستدارت الأيام لأجد نفسي وقد قذفت بيَّ المقادير لأن أكون ضمن الكتيبة العاملة في شرطة الإقليم الشمالي .. ذاك الإقليم الذي كان يضم وقتها شرطة مديريتي نهر النيل والشمالية ولكليهما مديرٌ وعلى سدتهما مديرٌ أكبر يتخذ من مدينة الدامر .. أرض الصفوة
والمجاذيب .. مقراً له

نواصل ،،،

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *