نعم فقد جاء إلتحاقي بكتيبة الإقليم الشمالي في العام 1984م والذي قضيته بمدينة كريمة رئيساً لقسمها الملاصق لمجلسي ريفي ومدينة كريمة بعد أن غادره في طريقه رئيساً لشرطة وادي حلفا .. النقيب ـ وقتها ـ صالح محجوب محمد صالح (صالح الحوش) .. ومن ثم وبعد قضاء ذلك العام كان الحراك إلى مدينة الدبة في إتجاه الشمال في العام 1985م والذي إمتدت فترته حتى العام 1987 ـ أي بعد ثلاث سنوات من وقوع تلك المأساة الفاجعة والتي بات النسيان يشق طريقه إليها، فيما صار الحادث مضرب مثل للحوادث المفزعة في إبتلاع الصحراء لهؤلاء النفر في إشارة لبرمودا سوداني.
لا أنسى ذلك الصباح من صباحات حياتي وأنا أتصفح ذاك الرتل من الدفاتر على منضدتي ـ كما يفعل كل من إِمتهن هذا المجال ـ وبينما أنا غائصٌ في أضابير الورق دون إلتفاتة لشيئ إقتحم علىَّ المكتب جمع غفير من أعيان ووجهاء مدينة الدبة على غير عادتهم ( إذ كان تواصلنا معهم يتم عادة خارج الدوائر الرسمية ) فادركت لحظتها أن خطباً جللاً قد وقع ..
دعوت الجميع بالدخول لذاك المكتب الذي ما كانت ستتسع مساحته لهم جلوساً فظلوا في حالة وقوف وتستغرقهم حالة كانت لا تزال بادية عليهم من الوجوم والإندهاش مما أصبغ على المكان برمته حالة من السكينة التي تشابه حالة الهدوء الذي تعقبه عاصفة .. وفي هذا الجو المشحون تفضل بالحديث إلىَّ إنابة عن الجمع أحد قادة المجتمع بالمدينة ورئيس محكمتها الريفية العم محي الدين مكي أبو شامة ـ والذي توافق الجميع على إطلاق لقب (الزعيم) عليه منذ عقود مضت لحكمته في حلحلة القضايا ولرجاحة عقله ولكرمه ـ تفضل بالحديث ذاكراً بأن إعرابياً (من العرب الرحل ما بين الحضر والبدو) كان في طريقه صحبة رفيق له من الخلاء المنحدر من منطقة حمرة الوز بإقليم كردفان المتاخم لحدود الإقليم الشمالي عندما إنتابهما العطش الشديد بعد نفاذ ما لديهما من ماء فبدآ يترقبان مرور قافلة بالصحراء أو أي مركبة عابرة علهما يجدا فيها ما يسد رمقهما .. ظلا على هذه الحالة لساعات طوال حتى أن توسطت الشمس كبد السماء وإشتدت حرارتها وبلغ منهما العطش مبلغاً وهما يترقبان أي بارقة أمل، وأثناء ذلك وعلى مرمى البصر إلتقطا بريقاً تصل أشعته إليهما من مكان بعيد فقدرا أن ذلك البريق الآتي ما هو إلا بركة ماء تسقط الشمس عليها أشعتها فتحيلها إلى بريق يصل إلى ناظريهم، ومن ثم عزما بما تبقى لهما من قوة وسارا قاصدين ذاك البريق ليرتويا من حوضه المأمول.
وبعد مسيرة مُضنية تتخللها أشعة حارقة وسموم لافحة وصلا لمصدر ذلك الشعاع .. فهل ياترى وجدا ذاك الماء الحلم الذي يرتجيه المرء في عمق الصحراء؟؟ تجئ الإجابة من مكان بعيد .. كلا .. ثم كلا .. فقد وجدا بعد ذلك العنت أن ما توهماه ماءً ما هو إلا بريق لزجاج عربة غارقة بكامل جسدها في عمق الرمال (يبدو أنها كانت غارقة بأكملها لفترة قريبة ومن ثم باتت الرمال تنقشع عنها رويداً رويداً بحركة الرياح والزحف الصحراوي) وقد أطل بعض زجاجها والذي ما أن تميل عليه الشمس مرسلةً إليه شعاعها إلا ويرسل ذاك البريق الخادع الذي يحسبه كل متوهم ماءً يشد له الرحال.
كل هذه الرواية والجميع في حالة إنصات وقد كنت ألحظ أن هناك إعرابيٌ يجلس على ساقيه أمام المكتب ولعلى كنت لحظتها أشير إلى نفسي بأن ذاك الأعرابي إنما هو المعني في الرواية، خاصة حينما كنت أسترق النظرات إلى وجهه خلسةً فأطالع فيه أسراراً مرتسمة تكاد أن تتفجر لتخرج إلى حيز اللحظة لتزيل الكثير من الإلتباسات والدهشة .. ولعله أي الإعرابي كان بدوره ينتظر الإشارة إليه بالدخول وهو حال هؤلاء الإعراب الرحل إذ لا يدخلون الأمكنة إلا بعد أن يُسمح لهم بذلك، وبالفعل فقد أمرت بمثوله بداخل المكتب للإستماع إليه مباشرة.
دلف الإعرابي إلى داخل المكان وهو يتحسس له موطأ قدم وسط الجموع التي تشغل المكان وإستطاع في ذلك أن ينفذ من خلالهم ليحتل موقعاً يجلس فيه على طريقة القرفصاء في قبالتي قبل أن يطلق بصره جائلاً في فضاء المكتب لكأنما بذلك كان يستنطق صمت المكان وتوقف الزمن الذي لازم اللحظة من الرهبة التي إمتدت لتعتري بهو المكان.
وعند الإشارة إليه (أي الإعرابي) بدأ الحديث في لكنةٍ تشوبها ثقة واضحة بأنه وزميله كانا بصدد القدوم لمدينة الدبة على راحلتيهما حينما ضلا الطريق وقضيا على ما لديهما من إمداد مائي وأنهما في سبيل العثور على الماء المطلوب قادتهما أقدامهما إلى ما توهماه ماءً حتى أن وصلا لجهة تلك العربة الغارقة في الرمال وأنه أدخل يده إلى داخل كابينة العربة الأمامية وإذا به يتحسس شعراً لإنسان يطل من جسم مدفون تماماً بالرمال دون أن يتمكن من إستبانة ملامح ذلك الجسم الإنساني لهول المفاجأة والصدمة والتي لم يستطع إزائها من التفكير قُدماً ناحية المشهد الماثل أمام ناظريه لأن تفكيره كان يحمله إلى أشياء أخرى ذات أولوية في تلك اللحظة وهي الحصول على الماء .
نواصل ،،،