ولحظتها تقاذفت إلى ذهني الكثير من التداعيات وعدت بمخيلتي إلى الوراء وأنا أستجمع تفاصيل المأساة حيث كنت مهتماً وملماً ـ لأسباب لعلها تتمازج مابين المهنية والإنسانية ـ ببعض دقائق تفاصيلها مستدعياً ذاكرتي الحاضرة الغائبة في هذه اللحظة لأستحضر من خلال ذلك أن عربة المأسأة ذائعة العيت كانت حكومية من طراز لاندكروزر (سطح) باللون الأزرق وتحمل اللوحة الصفراء ذات الرقم (576) ـ وهنا بدأ يتسرب إلى داخلي إحساس غريب.. ظل يتسارع في لحظة مهيبة.. وظللت أستقبل رسائل داخلية كانت كلها تنبئ بأننا أمام إسدال الستار على فصول الرواية المترفة بالحزن.. مأساة الصحراء.. إذ رجح يقيني المنهمك في تشخيص المشهد وأنا أحدث نفسي خفية بأن العربة المشار إليها والتي يطل منها ذلك الشعر الآدمي ما هى إلا عربة الضابط الإداري المفقود وسائقه وكان وقتها قد مضى على إختفائهما ثلاث سنوات بحالها أو تزيد ..

وهنا بدأت الذهنية المهنية تتمدد وتسيطر على إدارة الموقف والتفاصيل بطريقة المحقق فعمدت على الفور على إجراء أول إختبار لتأكيد الإستنتاجات فكان سؤالي للأعرابي الماثل ـ والذي بدأ منزعجاً ومشغول الفكر بدرجة ملاحظة وما يؤكد ذلك حركة عينيه الدائبتين أثناء تقديمه للرواية ـ سألته عن لون تلك العربة التي إرتآها في الخلاء فكان أن جاء الجواب سريعاً بأن لونها أخضر فتبدت أمامي حينها سحابة سوداء ظلت تتمدد وقد خابت حيالها كل آمالي المتصورة في وضع نهاية لذلك الحدث الأسطوري، ولكن رسالة أخرى أيقظتني من ذاك الإحساس المنهزم حينما بلغني من داخل تجاويف الذاكرة أن إِعراب البادية دائماً ما يخلطون ما بين الألوان وبخاصة الأزرق منها والأخضر .. وثمة أمل بدأ يطل من جديد ولجأت هذه المرة لفض هذا الإشتباك إلى درج منضدتي حيث كنت أودعه أقلاماً بالوان متعددة .. وبدأت أستعرض الأقلام تدريجياً على الأعرابي إلى أن جاء دور الأزرق في آخر الألوان والذي ما أن شاهده الإعرابي وإلا أن إستثارت نفسه وأرسل شهقةً عالية وهو يزعق محاولاً الإمساك بالقلم في خيال حسبته أنه يتوهم الإمساك برفات تلك العربة المحنطة في وسط الصحراء، وهنا تنفست الصعداء بعد إحتقان وأدركت أنني الآن على الطريق الصحيح وأن تلك الإستنتاجات لم تذهب أدراج الرياح وأننا تماماً نستقبل حادثة إختفاء الضابط الإداري عبدالباسط بخيت وسائقه (صلاح) المنحدر من مدينة عبري عندما كانا في العام 1983م في رحلة داخلية منها إلى قرية كرمكول بريفي الدبة.

وفي حال الواثق المتأكد والمزهو بالنصر الكبير بعثت دون تردد بإشارة إثيرية لسعادة مدير شرطة المديرية الشمالية ـ وقتها ـ العقيد شرطة: حيدر سليمان مدني ـ ذاك القائد الذي تخرج في كلية الإقتصاد بجامعة الخرطوم قبل أن يلتحق بقوات الشرطة، وقد رحل عما قريب عن دنيانا الفانية بعد تركه للخدمة وهجرته للمملكة العربية السعودية، فله الرحمة والمغفرة ـ بعثت محدثاً بأنه قد تم العثور على عربة الضابط الإداري المفقود وهي تحتضن جثمانيهما بداخلها وأننا نعد العدة للإنتقال لمكان وجودها وسنفيد لاحقاً بما سيتم التوصل إليه، وقد علمت لاحقاً وبعد إنتهاء المهمة أن رئاسة شرطة المديرية كان قد أصابها الذهول والإندهاش لدى إستلامها إشارتي الأثيرية الأولى في كيفية تحديد هوية وملامح الحادث قبل أن يتم الإنتقال إليه الأمر الذي جعلهم في خانة التردد من إحالته إلى رئاسة شرطة الإقليم بالدامر، بيد أن حالة من الإرتياح والفخر إنتابتهم عقب إستلامهم لإشاراتي اللاحقة

وعلى عجل فقد بدأت الترتيبات اللازمة من إحاطة القاضي المقيم لمدينة الدبة ـ مولانا أبو مدين الطيب البشير، وهو الآن وبعد أن حصُل على درجتي الدكتورة وعضوية المحكمة العليا يعمل ـ إن أصبت ـ بالمكتب الفني للسلطة القضائية إذ أنه من المهتمين بجوانب البحث العلمي ـ كما وإخطار المدير الطبي لمستشفى الدبة الدكتور عثمان قنديل ـ إستشاري الباطنية بمستشفى الخرطوم التعليمي حالياً ـ والسيد قائد حامية الدبة الرائد: محمد الطاهر سيد أحمد والذي تقاعد لاحقاً برتبة العميد بعد أن كان قد شارك في تشوين عمليات صيف العبور، تلك الملحمة السودانية المفخرة، وكذلك كانت الإحاطة للسيد ضابط الصحة بالمدينة العم حافظ، كما والإستعانة بإستديو الدبة للتصوير الفوتغرافي لصاحبه الأخ محجوب والذي في الأصل هو ضابط لوقاية النباتات بالإدارة الزراعية ولكن كان في وقته الخاص يمارس هذا العمل في زمن لم تكن إستديوهات التصوير الفوتغرافي بالمنطقة على إنتشار يذكر.

وبدأ السيد قائد الحامية أكثر جاهزية حينما إستنفر كافة آليات وناقلاته ورتلاً من رجاله الأشاوس متفوقاً على ضابط الشرطة الذي كانت في عهدته عربة لاندروفر تكابد المستحيل لأن تبقى على قيد الحياة من فرط الإستخدام في صحاري الإقليم الموغلة.

جلسنا جميعنا في إجتماع تنسيقي لم تكن القوى الشعبية والأهلية بعيدة عنه خاصة وأن أطراف الحادث يقعون في دائرة إهتمامهم ولذا كان لهم إسهام كبير في حشد شباب وأعيان المنطقة بتجهيزاتهم من أدوات الحفر والسحب ومياه الشرب والأطعمة ولم ينسوا خلال كل ذلك الأكفان والحنوط وبروش أُعدت لحمل الجثامين وأشياء أخرى، ومن ثم تحركت الجموع في رحلة البحث عن موقع العربة وسط رمال ترقد في صحراء متمددة بعد أن كنت قد دونت بلاغاً حول الوقائع المتوافرة تحت قانون الإجراءات الجنائية باشرت فيه التحقيق مبتدأً بذاك الأعرابي المبلغ بوصفه المدخل الأول للإجراءات.
نواصل ،،،