مذكرات بروفيسور عبدالسلام جريس سياحة فى عبقرية الطبيب السودانى تم نشرها فى كتاب عبقرية جريس لكاتبه دكتور الهادي مسكين حياتي كما عرفتها

مذكرات بروفيسور جريس


ولدت في قرية أكمه التي تقع شمال عكاشة المشهورة بوجود ضريح وقبة سيدنا عكاشة الصحابي الذي استشهد إبان حملات المسلمين الأولى على بلاد النوبة. أكمه اشتهرت بسواقيها وإنتاجها الوفير من الغلال واعتبرت العاصمة الثانية بعد در لقبيلة المندلاب التي أنحدر منها من جهة الأب. كان والدي العمدة لأربعة مشايخ وعمي عثمان شيخ أكمه وإمام القرية وأخي من أبي سيد كان وكيل العمدة وكان شخصاً مهاباً ومتعلماً ويتحدث العربية لأن طفولته وتعليمه كانت بالدبة وتنقسي. من الأشياء التي شدت انتباهي وانا صغير والدتي التي كانت تتحدث اللغة العربية بينما الناس جميعاً من حولها يرطنون، بما فيهم أطفالها، كانت تفهم ما نقول ولكنها تصر على الرد بالعربي، كانت ذات شخصية قوية ومصادمة ومضيافة والدها حسن الفنجري من حلفا دغيم ودبروسة وتاجراً مشهوراً في الدبة وامنتجو وناوا، والدتها من كرمكول تلك القرية عند منحنى النيل مسقط رأس الروائي العالمي الطيب صالح. هي ابنة شيخ كرمكول محمد فضل محمد فرح. اختارت اسمي والدتي تيمناً وإعجاباً بالمرحوم عبدالسلام الخليفة عبدالله الذي عمل مأموراً بالدبة ويظهر علامات الطاعة الاحترام لوالدته. لي أربعة شقيقات وشقيق واحد وثلاث اخوات وخمسة إخوان من الأب والعلاقة طيبة بيننا.

ومن أصدقاء الطفولة صلاح دهب فضل ولدنا في اسبوع واحد، وهو الآن أديب لامع ومستشار قانوني في سلطنة عمان. وكذلك عبدالرحمن سيد جريس الذي كان يكبرنا قليلاً وهو الآن ضابط شرطة بالمعاش. قضيت نحو عامين بخلوة مسيد أكمه وانتقلت الى مدرسة عكاشة الصغرى، وعشت في الداخلية في ذلك العمر الباكر مما خلق لدي رهبة ومعاناة. ولا أنسى اليوم الأول الذي شاهدت فيه المفتش الانجليزي وزوجته الشقراء وكلبه وعربيته الصالون، مناظر نشهدها لأول مرة ولم نصدقها. وأذكر بالتجلة المرحوم شيخ دياب والأستاذ تاج الختم عبدالرحيم الذي ارتبط اسمه بتطور المدرسة. وفي الذاكرة كريمة الناظر الجميلة في سن المراهقة وقد تغنى شعراء المنطقة بحمالها ولا زلت أذكر بعض ما قالوه. وأذكر حصة في المطالعة القاها الفنان الراحل الرائع محمد وردي عن الطفل الصيني والذي يربط خصلة من شعر رأسه في الحائط لكي يغالب النعاس، وكان الأستاذ وردي حينها زائراً لعمه المرحوم صالح وردي المسئول عن الشفخانة. ثم انتقلنا إلى عبري الوسطى التي ضمت أبناء السكوت والمحس ولها الفضل في تفتح مداركنا واستيعابنا بفضل كوكبة من النظار والأساتذة يندر أمثالهم: دهب عبد الجابر، على أحمد، شورة، حاج التوم سيد أحمد عرديب، عكرمة، محسوب، أحمد علي، عبدالحميد، مأمون، قطبي سالم، نجم الدين وبقية العقد “ النفيس ” الذين شجعونا على مناشط الجمعيات الأدبية وجرائد الحائط والإستفادة من المكتبة العربية والإنجليزية.

وفي وادي سيدنا الثانوية وجدنا مجالاً أرحب للاختلاط بأبناء المناطق الأخرى وخاصة اولاد أم درمان الذين ما بخلوا علينا باللمسات الحضاراية، وخاصة في مجال اللبس، وكنت ضمن من يطلق عليهم ( الكبابين ) اي الذين لا هم لهم غير المذاكرة، وبالرغم من ذلك نجحت أن أكون رئيس أول لداخلية جماع بالانتخاب رغم أن هذه كانت محتكرة للبارزين في الرياضة البدنية وانا كنت لا أميل لها. المدرسة كانت شبيهة بالجامعة، نشاط ثقافي وسياسي ورياضي. عاصرنا ونحن في السنة الأولى الشاعر سيد احمد الحردلو والشاعر عوض مالك وأذكر له بعض أبيات كتبها في رثاء المرحوم طه سورج الذي غرق في النهر:

أين العدالة يا دهر ** والنهر جبار فجر
في جوفه خل لنا ** يعلو بذاك المنحدر
وعلى ضفاف النيل ** اعصاب تموت لا مفر

وأذكر حادثاً طريفاً مع الداعية الإسلامي الشهير المرحوم حاج نور عندما منعته من الآذان في حوش الداخلية بحجة أن مؤذن مسجد المدرسة يقوم بالمهمة وصوته مسموع بوضوح، ونظر الى ضاحكاً وقال حلفاويين نص دين، تذكر ذلك لاحقاً عندما قابلته وهو إمام مسجد الجامعة وقال:
شوف أنا أترقيت من مؤذن داخلية إلى إ مام جامعة الخرطوم، رحمه الله.
نواصل⁩